مورغان في مدينة سوسة مسلّه - طولها 2.25 م محفور عليها، بالخط المسماري، قانون حمورابي. هذا القانون مكوّن من مقدمة وخاتمة طويلتان ومن 282 مادة قانونية. لدى مقارنة نص القانون مع أسفار التوراة فوجئ العالم بمقدار الشبه الكبير بينهما. فقام الاعتراض على أن كاتب القوانين التوراتية لا بد أنه سرق نصوصه من قانون حمورابي، خاصة أن حمورابي يسبق موسى بمئات السنين.
فأصبح من الواضح أن القوانين في التوراة مسروقة عن شعب بابل الوثني على حد تعبير التوراة، فلماذا نسمي قوانين التوراة «نصاً من الوحي الإلهي؟».
أما قانون حمورابي فيبقى فقط «نصاً تاريخياً» يخلو من أي قيمة تاريخية.
قبل الإجابة عن هذا السؤال، لابد من إلقاء الضوء على حمورابي نفسه، وعلى قانونه، ومن ثم، سنظهر أوجه الشبه بين قانونه والتوراة.
من هو حمورابي؟
جلس حمورابي على عرش بابل بحدود العام 1726 قبل الميلاد، وهو في الخامسة والعشرين من عمره. ولما كانت مملكته محاطة بمجموعة الممالك التي قادتها مكتملوا العمر، محنكين بالدهاء مع مرور الأيام.
إلا أن حمورابي كان طموحاً بتوسيع رقعة حكمه ودولته، وجعل بابل عاصمة لإمبراطورية عظمى تمتد على كل بلاد ما بين النهرين. وانتصارات حمورابي المتتالية لم تخل من الصعوبات الخارجية والداخلية أيضاً. فسرعان ما تجمعت ممالك بلاد ما بين النهرين كمملكة لارسا واشنونا وعيلام وآشور وغيرها لتشكل قوة رادعة في وجه أحلام الملك الشاب التوسعية. أما في الداخل فقد اندلعت ثورات عدة ضده وضد حكمه، قام بها أحياناً أهل مدينته بابل أنفسهم، ولكن غالباً ما أتت من قبل المدن التي احتلها حديثاً إذ حاولت مراراً الخروج من سيطرته عليها واستعادة استقلالها. ومع توسع رقعة حكمه المتزايد، أضحى الحفاظ على وحدة الأمبراطورية البابلية الجديدة واستقرارها الداخلي أمراً صعباً، وخاصة أن الوضع الاجتماعي المتردي قد ساهم في إشعال المزيد من الثورات الداخلية المدعومة من أعداء الخارج. فالأغنياء كانوا يزدادون ثراء على حساب الفقراء، والوزراء والموظفون والقضاة كانوا يضعون مصالحهم الشخصية فوق كل اعتبار، حتى أن الكهنة كانوا يستفيدون من سلطتهم لإنجاز مآربهم وللإثراء غير المشروع.
والملك الشاب حمورابي المشغول بحروبه الخارجية علم سريعاً أنه لا بد من إزالة عقبات عدم الاستقرار الداخلي حتى يتمكن من التفرغ لمشروعه الامبراطوري لذلك قرر أن يهتم بالتنظيم الداخلي، وذلك عبر إصدار قانون يمنع الفساد ويؤمن العدل والاستقرار والسلام في البلاد. ويتكلم حمورابي بشكل واضح وصريح عن هذه المشاكل في خاتمة قانونه.
«بفضل السلاح الماضي الذي أعطانيه زيبي واينانا، بفضل الحكمة التي خصتني بها ايا، بفضل القوة التي وهبني إياها مردوخ، لقد أزلت الأعداء في الشمال والجنوب. لقد أخمدت المعارك. لقد أعطيت السعادة للبلاد. لقد أرحت المتمدنين في مراع خضراء، ولم أدع أحد يزعجهم... ولكي لا يظلم الغني الفقير، ولكي أقيم العدل لليتيم والأرملة، ولكي أصدر قوانين البلاد، ولكي أعطي الحق للمظلوم. لقد كتبت كلماتي المهمة على مسلّتي فالمظلوم في قضية ما، ليأت أمام تمثالي «ملك القانون» ليقرؤوا له مسلّتي المكتوبة، وليسمع أوامري المهمة ولتحدد له مسلتي قضيته، ولير حالته وليرتح قلبه. نعم حمورابي هو سيد وهو كأب لحمى الناس».
وهكذا قام حمورابي يجمع مختلف «الاجتهادات القضائية» المنتشرة في أنحاء إمبراطوريته الجديدة، فجمع بينها ونسقها، وأصدر منها مجموعته القانونية في 282 مادة حتى تكون مرجعاً للحكّام والقضاة. ولهذا السبب نقش الملك قانونه على أربعين مسلّة حجرية، وزّعها في كل أنحاء البلاد ليقرأها الجميع، فلا يجد أحد عذراً لعدم تطبيق القانون على أساس أنه لم يقرأه.
وهكذا تمكن حمورابي من التغلّب على كل العراقيل التي اعترضت طريق مشروعه التوسعي. وسرعان ما فرض سيطرته على كل الممالك المجاورة، وأسس بذلك إمبراطوريته المترامية الأطراف، وصلت حدودها إلى بلاد المغول وإلى شرق سوريا أيضاً.
المشابهات بين قانون حمورابي وشريعة التوراة
تتطابق بعض قوانين التوراة مع قوانين حمورابي وسنورد في ما يلي بعض الأمثلة على ذلك:
قانون حمورابي 8
إذا سرق سيد ثوراً أو شاة أو حماراً أو خنزيراً أو قارباً، إذا كان (المسروق) يعود للإله أو للقصر، فعليه أن يعطي 30 مثلاً. أما إذا كان يعود إلى مسكين، فعليه أن يدفع 10 أمثال كاملة، إذا لم يكن لدى السارق ما يعوّض به فإنه يعدم.
قانون التوراة:
إذا سرق رجل ثوراً أو شاة فذبحه أو باعه فليعوض بدل الثور خمسة من القطيع. وبدل الشاة أربعة من الخراف. (خروج 21: 37).
قانون حمورابي 129
إذا قبض على امرأة مضطجعة، مع سيدتان فيجب عليهم أن يوثقوهما ويلقوهما في الماء. ويمكن لزوج المرأة أن يبقي زوجته على قيد الحياة إذا رغب، كما يمكن للملك أن يخلّي حياة أمته.
قانون التوراة:
وإن أخذ رجل يضاجع امرأة متزوجة فليموتا كلاهما. (تثنية 22:22)
قانون حمورابي 195
إذا ضرب ولد والده فعليهم أن يقطعوا يده
قانون التوراة
من ضرب أباه وأمه فليقتل قتلاً (خروج 21: 15).
قانون حمورابي 196
إذا، فقأ سيد عين ابن أحد الأشراف، فعليهم أن يفقأوا عينه.
قانون التوراة
الكسر بالكسر والعين بالعين والسن بالسن (لاويين 24:20).
قانون حمورابي 197 ـ 200
إذا كسر سيد عظم سيد آخر، فعليهم أن يكسروا عظمه.
إذا قلع سيد سن سيد من طبقته، فعليهم أن يقلعوا سنه.
قانون التوراة
هو ذات القانون السابق.
قانون حمورابي 245
إذا استأجر أحدهم ثوراً وأماته بسبب الإهمال أو الضرب، يعوّض صاحب الثور ثوراً مثله.
قانون التوراة
ومن قتل بهيمة، فليعوّض مثلها، نفساً بدل نفس (لاويين 24:18).
قانون حمورابي 250
إذا عجل، وهو مار في الطريق، نطح رجلاً ما وأماته، هذه القضية لا تستوجب التعويض.
قانون التوراة
وإن نطح ثور رجل أو امرأة فمات، فليرجم الثور ولا يؤكل من لحمه، وصاحب الثور براء (خروج 21:28).
قانون حمورابي 251
إذا كان عيد أحدهم، يدفع ثلث منه، من الفضة (المنة: تساوي بابل 505 غرام).
قانون التوراة
وإن نطح الثور عبداً أو أمة، فليؤد إلى سيده ثلاثين مثقالاً من الفضة والثور يرجم (خروج 21:32).
هنا سؤال يطرح نفسه: هل هناك من علاقة وتواصل تاريخيين بين البابليين واليهود، قد ينتج عنهما مثل هذا التأثير الحر في المواد القانونية؟
نقول هنا، بديهياً، إنه، وحسب التقليد الكتابي، أن إبراهيم الخليل خرج من مدينته أور الكلدانية، أي من سهل شنعار من بلاد بابل الجنوبية على أيام حكم حمورابي، وعليه فإن إبراهيم حاملاً معه شرائع بلاده الأصلية الأصيلة، وبقيت تراثاً لدى أبنائه وأحفاده على التوالي يعملون بها ويتقاضون بموجبها. علماً أن التوراة تشير مع العلماء الباحثين في أسفارها أن الملك امرافيل المذكور في سفر التكوين (1:14- 12).
وتأكيداً على كلامنا نجد أن زواج إبراهيم من هاجر الجارية، خادمة زوجته سارة العاقر، لينجب منها ولداً لسارة، أمر منصوص عليه في قوانين حمورابي. في حين أنه يغيب في قوانين العهد القديم.
فقد ورد في قانون حمورابي المادة 145 ما نصه: «إذا تزوج سيد زوجه، ولم تهد له أولاداً، وقرر أن يأخذ جارية فلهذا الرجل أن يأخذ ويأتي بها إلى بيته أنها امرأة ثانية».
وفي التوراة ورد ما نصه: «فقالت ساراي لأبرام: هوذا قد حبسني الرب عن الولادة فأدخل على خادمتي، لعل بيتي يبنى منها» (تكوين 2:16).
لذلك نستطيع القول إن إبراهيم، في زواجه من هاجر، طبّق قانوني حمورابي، ثم إن النزاع الذي حصل بين سارة وهاجر مذكورة أسبابه في قانون حمورابي كما ورد في المادة 145: «... لا تكون مساوية للزوجة» والتوراة تنص: «فلما رأت هاجر أنها قد حملت هانت سيدتها في عينها. فقالت ساراي لأبرام: ظلمي عليك، إني وضعت خادمتي في حضنك. فلما رأت أنها قد حملت، هنت في عينيها. ليحكم الرب بيني وبينك». (تكوين 16: 4- 5).
اذاً تظلم سارة قانوني، بحسب شريعة حمورابي ويبقى أن نطرح سؤالاً يطرح نفسه بخصوص هذه القصة: لماذا لم يبع إبراهيم هاجر، حسب عادة الأسياد مع العبيد، بل طردها من المنزل؟ الجواب أيضاً في قانون حمورابي الذي ينص بحسب المادة 146 ما يلي:
إذا سيد تزوج زوجة وأعطت لزوجها جارية فولدت أولاداً، وإذا أرادت هذه الجارية أن تتساوى بعد ذلك مع سيدتها لأنها ولدت أولاداً، لا يجوز لسيدتها أن تبيعها بالفضة أو تضعها في السلاسل أو تعدها من الإماء».
والتوراة تشير إلى هذه الناحية بقولها:
«فقالت (سارة لإبراهيم): اطرد هذه الخادمة وابنها» (تكوين 21: 10).
إذن، بعد ولادة إسماعيل، وحسب قانون حمورابي، لم يعد باستطاعة إبراهيم لا أن يبيع هاجر ولا أن يعاقبها. لذلك كان الحل الوحيد أمام سارة أن تطردها من المنزل.
وقبل أن اختم كلامي، أذكر بأن الشكل النهائي لنص التوراة يعود تأليفها إلى فترة ما بعد العودة من سبي بابل (القرن الخامس قبل الميلاد)، لذلك فالكاتب عاش مدة نصف قرن وأكثر في العالم البابلي وتعرّف على عاداته وتقاليده، وعلى تراثه الفكري والروحي وتأثر بها في عمله التأليفي لهذه النصوص القانونية.